Friday, September 9, 2011

رقص تركي على حبال المنطقة... والنتيجة ؟ (العميد أمين حطيط)



يكاد الكثير من المراقبين والباحثين في سياسات دول المنطقة واستراتيجياتها يحارون في تصنيف الدولة التركية وتحديد موقعها الصحيح على هذا المسرح الاستراتيجي المشرقي مع ربطه بالمسرح الاوسع دوليا. فتركيا – حزب العدالة والتنمية برعت في السنوات الخمس الاخيرة في اطلاق المواقف المتناقضة في الزمان والمكان ذاته. تلغي مناورات مع الناتو لأن "اسرائيل" ستشارك فيها ثم تنفذ وفي الاسبوع نفسه مناورات مع "اسرائيل" وتشترط حجبها عن الاعلام، ترفض التدخل العسكري في ليبيا من اي جهة جاء ثم تشارك بصيغة او بأخرى في خطة الناتو العسكرية التي اودت بنظام معمر القذافي، تغضب لاهانة سفيرها في "اسرائيل" ثم ترفض التعامل بالمثل او اتخاذ موقف يؤلم الدبلوماسية "الاسرائيلية"، وقبل ذلك تعلن وتشهر استراتيجيتها القائمة على قاعدة "صفر مشاكل " ثم تتوجه الى الميدان بعد " التصفير " الى انتاج مشاكل جديدة مع احياء ذاكرة الآخرين بما كان من مشاكل معها ما يصحّ فيه القول بأن ادعاءها بـ "صفر مشاكل" انقلب الى "صفر ثقة" تؤدي الى شل علاقاتها بدول المنطقة ومكوناتها السياسية والاثنية، وتجميدها خلافاً لمقتضيات استراتيجية الانخراط في المنطقة والاقتران الاستراتيجي بدولها مع ما يفرضه من نسف المشاكل القائمة وبناء الثقة الثابتة والتراكمية.
أ‌. والآن وبعد المواقف التركية من سورية واسرائيل فضلا عن ايران والقضية الفلسطينية، يبدو السؤال الملح: اين تركيا في موقعها الحقيقي ؟ وهنا لانرى الاجابة صحيحة الا بالتعمق في المواقف التركية من دون الاكتفاء بالتوقف عند ظاهر الكلام وسطحية المواقف.

1) مع استراتيجيتها الجديدة اظهرت تركيا اهتماما بالقضية الفلسطينية الى الحد الذي ظن فيه البعض ان فلسطين ستحرر على يد الاتراك وحدهم تقريبا وكانت المواقف الاستعراضية التركية في الأروقة الدولية او في مياه المتوسط وضفافه توحي " بانتفاضة تركية " على التاريخ التركي في العلاقة مع اسرائيل، لكن وبدون عذر مفهوم تراخت تركيا ولاشهر طويلة عن المطالبة الجدية بدماء ابنائها الذين قتلوا بيد اسرائيلية على سفينة تركية ولم تطرد سفيراً أو تقطع علاقات دبلوماسية او سواها، لكنها امتنعت لاحقا عن تكرار تجربة اسطول الحرية لتوحي عملياً "لاسرائيل" بأنها استوعبت العملية التأديبية وتعد بعدم تكرارها، ثم وتعود وتطرد السفير "الاسرائيلي" بعد اشهر طويلة.

2) و مع استراتيجيتها الجديدة انفتحت تركيا على سورية التي تلقفت المسعى وشرعت الابواب وتناست التاريخ وبنت للمستقبل معوّلة على ان تصبح تركيا عمقا استراتيجيا مضافا الى عمق آخر باتجاه الشرق في ايران، ولكن وما ان تحرك بضعة مئات من المواطنين السوريين في شوارع درعا حتى انقلب الموقف التركي ضد سورية بحيث بدت تركيا تمارس سلوك " الاستذة " والامرة على النظام السوري كأنه نظام قاصر فاقد الولاية على النفس ومنعدم السيادة، ورغم ان سورية افرطت في محاولة استيعاب المواقف التركية حتى لا تتسرع في خسارة صديق او حليف استراتيجي محتمل تفرض الجغرافيا افضل العلاقات معه، رغم هذا استمرت تركيا في لعب دور " عدائي" ضد سورية، دور تجلى في المواقف السياسية العلنية، واحتضان من يسمون انفسهم معارضة سورية، ثم تتبنّى مشروع تنظيم الاخوان المسلمين الذين يسعون بدعم اميركي الى الاطاحة بالحكم السوري القائم، ولم تتورع تركيا في عملها ضد سورية عن دعم الحركات المسلحة وتوفير الملاذ الامن لاشخاصها وعائلاتهم عبر اقامة المخيمات فضلا عن التلويح بالتدخل العسكري ضدها سورية، وهو التدخل الذي ما كان ليصرف النظر عنه، الا من خلال التهديد الايراني الحازم برد فعل قاسٍ يشمل كل المساحة التركية وما عليها من قواعد اميركية واطلسية.

3) و مع استراتيجيتها الجديدة انفتحت تركيا على ايران الى الحد الذي اتخذتها ايران فيه " وسيطا مأمونا" في المباحاثات الدولية حول الملف النووي السلمي الذي تعمل فيه، وكانت تركيا تغالي المرة تلو الأخرى باظهار حرصها على الامن الايراني والعلاقات البينية مع ايران كونها دولة مشرقية جارة لها ودولة اسلامية تتقاطع مع حزب العدالة والتنمية باحترامها وعملها بالشريعة الاسلامية. لكن الموقف العملي الاخير والمتجسد بقبول تركيا نصب الدرع الصاروخية الاطلسي على اراضيها نسف كل الكلام المعسول، اذ انه في الوقت الذي رفضت فيه دول عدة في اوروبا الشرقية المنضوية في الحلف الاطلسي استقبال منظومة الرادارات العملاقة كجزء من الدرع الصاروخية ذاك، قبلت تركيا بإقامة تلك المنظومة على اراضيها ولجأت الى حركة مسرحية أثارت بها دخاناً سياسياً تعوِّل عليه لحجب هذا القرار الاستراتيجي البالغ الاهمية والخطورة على امن المنطقة وطبيعة النزاعات العسكرية المستقبلية حولها. اذ من المضحك والمثير للسخرية ان تحاول تركيا اقامة التوازن بين قرار تكتيكي مرحلي يمكن العودة عنه في اي لحظة ويتمثل بطرد السفير "الاسرائيلي" من انقرة (و نعتقد انه سيعود في مهلة لن تتجاوز الاشهر الى السنة ) وبين قرار استراتيجي يتمثَّل في نصب الدرع الصاروخية ضد كل من روسيا وايران وسورية لحماية "اسرائيل" والمصالح الغربية. وتعلم تركيا ان الدرع الصاروخية هذه عندما يكتمل تفعيلها ستشكل دافعا للغرب لمهاجمة ايران بعد ان يطمئن للمنظومة الدفاعية التي تحميه من الصواريخ الايرانية.
بعد كل هذا نسأل ما هي حقيقة تركيا ومواقفها واهدافها، وهنا نرى الاجابة سهلة انطلاقا من المواقف والسلوك العملي بعيدا عن الخداع والاستعراض الكلامي ويمكننا القول:

1) ان تركيا عضو اساس فاعل في الحلف الاطلسي ( الناتو )ينفذ ما يقرره الحلف بقناعة تامة وليس نتيجة قرار الاكثرية وانصياع الاقلية لان نظام الحلف قائم على مبدأ القرار بالاجماع، ما يعني انه يكفي الرفض التركي حتى يتوقف صدور اي قرار.
2) ان تركيا الاطلسية وافقت على كل ما طلب ويطلب منها في اطار الحلف الاطلسي بما في ذلك المفهوم الاستراتيجي العام للحلف والمعتمد لعقد من الزمن يبدأ في 2010، مع العلم بان هذا المفهوم يعتمد استراتيجية التدخل في الشرق الأوسط بالقوة الناعمة التي تتضمن انتاج الازمات والفتن الداخلية لبلدانه المعارضة للسياسة الغربية، وصولا الى تغيير الانظمة، او تجميدها او حملها على الانكفاء الى الداخل بعيدا عن قضايا المنطقة وهمومها. وبالتالي تلعب تركيا في هذا المجال دور طليعة او رأس القوى المتدخلة وبهذا يفهم دورها في جسر الشغور وتلويحها بالحاقه في التدخل العسكري الكامل في سورية.
3) ان سياسة تركيا تجاه اسرائيل مهما تقلبت تبقى محكومة بسقف التحالف الاستراتيجي الذي تقوده اميركا، وان الصراخ والتهديد والمد والجزر في العلاقة لا يعدو كونه تقلباً في علاقات الافراد في البيت والعائلة الواحدة المتماسكة.و بهذا نفهم طرد السفير "الاسرائيلي" من انقره على اساس انه "ثورة غضب مزيفة" تخفي مناورة للتغطية على حقائق أهم يراد حجبها.
4) ان تركيا ذات طموح اكيد بأن تسيطر على المنطقة متكئة على فئات محلية سبق لها ان تحالفت مع الغرب وأعادت تحالفها اليوم معه، وبهذا يفهم احتضانها للاخوان المسلمين الذين ستتخذهم اداتها في السيطرة، ولتكون هي يد الغرب في الامساك بالمنطقة.
وبعد هذا نعود الى السؤال : هل ستنجح تركيا في مهمتها الاطلسية ؟
قبل الاجابة نسجل بان تركيا استطاعت ان تحدث خرقاً كبيراً في العامين الماضيين لكن افتضاح امرها في سورية، وعجز الغرب عن الاطاحة بالحكم السوري سيرتدان على تركيا خسائر استراتيجية وفق ما تتوقع واكثر مما تحتمل وستجد تركيا نفسها انها لم تكن لاعباً محترفاً على حبال السياسة الشرق أوسطية، وفي المقابل ستبقى قافلة منظومة المقاومة التي جاءت تركيا لتقطع الطريق عليها ستبقى مستمرة في مسيرتها لمنع المشروع الغربي الذي يعتبر تركيا احدى ادواته، لتمنعه من تحقيق اهدافه ضد مصالح شعوب هذه المنطقة.