الأرعن ورؤوس النعام
كان ينقص لبنان أرعن في رئاسة الحكومة. يقف ويرفع إصبعه ويهدّد وزيراً في الحكومة كأنّه موظف في شركاته المتعثّرة، أو جار من الذين يُمنعون من إيقاف سيّاراتهم قرب منازلهم، ومن استقبال الضيوف أو فتح النوافذ أو توظيف نواطير قبل الحصول على إذن خاص، وذلك لأسباب أمنيّة.
كان ينقص لبنان أن يقف شخص، صودف أنّه ابن رئيس سابق للحكومة، لم تُعرَف له جدارةٌ في أيّ جامعة انتسب إليها، ولم يحفظ سورة الفاتحة بلغة عربية صحيحة، أن يرفع إصبعه ويهدّد شخصاً مثل شربل نحاس، لأنّ الأخير أصابه من حيث يحتسب أو لا يحتسب، وأصاب معه فرقة من الدجّالين الذين لا يتوقّفون عن أداء دور الببّغاء التي تعيد تكرار ما يقال لها أو أمامها.
كان ينقص لبنان أن يصرخ شاب يعاني أزمة «نقص في التسلية واللهو» بوجه خبير كبير، وقامة من قامات لبنان، شاء من شاء وأبى من أبى، وأن يهدّده بأنّه سيجعله يدفع الثمن غالياً. ما الذي فعله سعد باشا، هل هو مزاح أم تهديد بأنّه سوف «يلطي» لشربل خارج قاعة الحكومة أو على خط السكة في صيدا حيث يتوعد الزعرانُ أوادمَ المدينة؟ أم سيرسل له حرسه أو مرافقيه ليضربوه؟ أم سيمنع عنه راتبه الشهري، أو يشكوه إلى المحكمة الدولية؟ أم سيقضي عليه نهائياً؟ ما معنى الذي قاله سعد الحريري الذي روت «يديعوت أحرونوت» قبل أيّام، نقلاً عن مصادر من الواضح أنّها أميركية، أنه «على شفير انهيار عصبي»؟
كان ينقص لبنان أن يخرج علينا من جرى تلقيمه كلمة الدولة والعبور إليها وبنائها، وكل هذا الدجل، ويهدّد وزيراً يأمل اللبنانيون أن يكون عندنا مثله بعدد الثلث المعطّل، وأن يرفع إصبعه في وجهه لأنّه حذّر داخل الحكومة من الضغوط الأميركية والإسرائيلية في ملف المحكمة الدولية؟ هل يجرؤ سعد الحريري على مواجهة السيّد حسن نصر الله، أو النائب وليد جنبلاط، وقد قالا ما هو أكثر وضوحاً وأشدّ إيلاماً؟
كيف يوافق سليمان ووزراء المعارضة على تهديد وزير وتجاوزه ومحاولة إيذائهكان ينقص لبنان أرعن من صنف «رجال الصدفة»، وهو يرفع إصبعه بوجه واحد من أذكياء لبنان، من الذين يعرفون البلد «حلّة ونسباً»، وذنبه أنه لا يمكن الكذب عليه، أو إيهامه أو احتواؤه أو إغراؤه إو إغواؤه، وذنبه أنه قال صراحة داخل الحكومة وخارجها ما يجب أن يقال صبح مساء منذ أُدخلت البلاد سوق النخاسة باسم الحقيقة والعدالة.
كان ينقص لبنان أرعن لا يريد للدولة أن تقوم، بل يريد ملعباً يمكّنه من إبراز مواهبه في الركض والكلام المبعثر، وأن يهدّد هذا الأرعن من يرفض سرقة أموال القطاع العام، ومن يقول إنه يمكن معالجة المشكلات إذا كانت هناك آليّات علمية لإدارة الدولة ومرافقها.
لكنّ المشكلة ليست في الأرعن وحده، بل في الذين سمعوا كلامه وتهديداته وصمتوا، ولم يبادروا إلى رفع الصوت رفضاً لهذا الأسلوب المهين لكل من كان على طاولة مجلس الوزراء يومها.
هل يكون مقام رئاسة الجمهورية محفوظاً عندما يشاهد رئيس البلاد «رئيس حكومته» يهدّد وزيراً؟ وهل يُحفظ مقام رئاسة الحكومة إذا كان شاغله شتّاماً يريد النيل من كرامات الناس وربما أكثر؟ هل يستحقّ باقي الوزراء الثناء وهم يقفون من دون حراك، لا يرفع أحد يده اعتراضاً ولا يصرخ آخر بوجه الأرعن، ولا يقف ثالث على رأس قدميه مشيراً إلى الأرعن بالصمت؟
كيف تعبّر قوى المعارضة عن تضامنها السياسي ولا يقف وزير من قواها، من حزب الله إلى تيار المردة أو كتلة الرئيس نبيه بري، ولا يردّ الكلام والتهديد عن رفيق لهم، يقف الآن في مقدّمة الصفوف في مواجهة أكبر عملية تزوير تتعرض لها مرافق الدولة المنتجة؟ كيف يمكن هؤلاء جميعاً، القبول بالذي حصل من دون القيام بخطوة للدفاع عن أنفسهم لكونهم وزراء يمكن هذا الأرعن أن يهاجمهم مرة أخرى بالضرب مباشرة ما دام التهديد قد أتيح له الآن؟ ما الذي كان ينتظره هؤلاء: أن يُخرج الحريري مسدّسه ويطلق النار على نحاس... أم ماذا؟
ماذا فعل رفاق نحاس من وزراء تكتل التغيير والإصلاح؟ هل هذا ما علّمهم إيّاه العماد ميشال عون الذي لا يقبل لأحد منهم الإهانة من ابنه أو شقيقه أو رفيقه في الحزب؟ من الذي بلع ألسنتهم وجعلهم يصمتون عن تهديد رفيقهم وهم يعرفون أنه كلام يشملهم واحداً واحداً؟
وأكثر من ذلك. يتّصل أرعن صغير، موظف عند الأرعن الكبير، بمكتب وزير الاتصالات لإلغاء اجتماع كان قد طلبه من يُفترض به أن يكون رئيس الحكومة، مستخدماً عبارات لا تليق ببني آدم. ثم يرسل الأرعن في طلب أعضاء الهيئة المنظمة للاتصالات، بخلاف الأصول التي تقتضي سؤال الوزير أو حضوره، ويطلب منهم تقديم تقارير تقول إن الوزير يخالف القوانين، وإنه يؤخر عمل الدولة، وإنه يفتح مشاريع ليست مطلوبة مثل الألياف البصرية أو الجيل الثالث من الهاتف الخلوي.
وإلى جانب ذلك، يرفض الأمين العام لمجلس الوزراء إعطاء وزير الاتصالات نسخة عن مداخلته في جلسة الحكومة ونسخة عن «تهديد الأرعن» لأن القانون لا يسمح له بذلك. يعني أن «دولة الرئيس البوجي» يعطي الحق لرئيسه بأن يهدّد ويشتم، ويمنع عن المهدَّد والمشتوم أن يدافع عن نفسه... ماذا يفعل البوجي هنا، هل بات هو الآخر من شهود الزور؟
ثمة أشياء لم تعد تحتاج إلى مزيد من الكلام. ثمة أرعن وجب إرساله الى إصلاحيّة تؤهّله لكي يكون تلميذاً في صف ابتدائي، قبل أن يطمح ليكون رئيساً للحكومة.
نصري الصايغ-
هل نعيش حالة سوء فهم متبادل؟ هل سوء الفهم مؤقت؟
أصرّ السيد حسن نصر الله في ذكرى يوم الشهيد، على «فهمتونا غلط». وكررها مراراً، مرة للشرح، ومرة للتنبيه، ومرة للتحذير، ومرة لدرء الآتي من «أيام الماضي الآتية». (عذراً للشاعر انسي الحاج. الظرف وحده جعلنا نستبدل عنوان كتابه «ماضي الأيام الآتية»).
رابط الخطاب كان: «فهمتونا غلط».
أغلب الظن، أن المسألة ليست سوء فهم، إذ، لا يعقل أن يكون هذا البناء السياسي اللبناني، في الثقافة والسياسة والتربية والنظام و... المقاومة، هو نتاج سوء فهم. إن سوء الفهم إذا تكرر، وأصرّ أصحابه على المزيد منه، يدخل في باب الخيارات وليس في باب الأخطاء الناتجة عن سوء استعمال العقل، أو سوء استعمال الاستدلال، أو سوء استقراء التجارب المرة، الكثيرة والمفجعة.
لم يلتئم لبنان مرة في تاريخه، على الخيارات الاستراتيجية. أفضل لحظات وفاقه الوطني، عندما يكون الاقليم في حالة غيبوبة، أو عندما تكون القوى العظمى، في حالة انشغال في قضايا دولية نائية.
هو هكذا. منذ التأسيس، أو، حتى من قبل. كيان يعرج على عكازين، بشكل غير مستقيم، وغالبا ما يتعثر ويقع.
هو هكذا. نصفه هنا ونصفه ضد الهُنا. وهو مع الهناك.
وعليه، فالمسألة ليست «فهمتونا غلط»... لأنهم يجيدون القراءة جيداً، لكن في كتاب آخر. وقد تناوب على تأليفه، جهابذة الانعزال، ومفكرو الحياد، ومنظرو «قوة لبنان في ضعفه»، ومفلسفو الاعتدال، ومروجو بضائع «المجتمع الدولي».
هذا كتاب من كتب التأسيس للبنان. وقد جاء من يحاول تأسيساً جديداً. ولقد كان لهذا التأسيس منطق آخر ونص آخر، يتبنى مذهباً نقيضا لمذهب الانعزال و... وصولاً إلى مذهب الانحناء أمام نصائح «المجتمع الدولي»، والتنازل أمام أوامر مؤسساته.
حجر الزاوية كان تغييراً في الاتجاه: لا ينبغي أن يبقى لبنان، نتاج لاءين: لا للشرق ولا للغرب. لا ينبغي أن يكون عنوانه الدائم «هيك وهيك»، كمكان اقامة دائم، كما اختارها له رئيس الحكومة الأسبق الحاج حسين العويني.
لبنان، الذي أراده الفرنسيون شارداً، طائراً في غير سربه، جسر عبور، ملجأ للأقليات، رأس سوق للغرب باتجاه الشرق ومستودع أموال للعرب الخائفين على جيوبهم وحقائبهم... هذا اللبنان، جرّب هذه الصيغة وفشل. جرّب الهروب من العروبة، فحضر عبد الناصر إليه، بقوميين عرب لبنانيين غير مستوردين من الخارج، لأن أصل العروبة لبناني/شامي. جرب الهروب من فلسطين، ونأى بنفسه عن المشاركة، فحضرت فلسطين بكامل عدتها، كقضية وكمقاومة، وأقامت فيه روحاً... جرب الهروب من دمشق، فأقامت فيه وفوقه وعليه... جرب أميركا، فأحضرت المارينز مرتين وغرقت في رمال الأوزاعي... جرب فرنسا، فنال منها ما لم تنله مستعمرة لها في افريقيا. جرّب اسرائيل، فحضرت بآلتها المدمرة، واغتصبت وأشادت رئاسة لأيام، وفجرت مقاومة بلا هوادة.
لا يقع ذلك في سوء الفهم، بل في سوء الخيارات. ليست المسألة «فهمتونا غلط». انهم أصحاب فهم آخر. والمقاومة صاحبة فهم جديد. وهي تحاول تأسيس الكيان، على قاعدة القوة وليس على ناصية الضعف. والقوة مكلفة، وثمنها باهظ، فيما الضعف يعفي النفس من الجهد، ويستسيغ الاتكال على... واللائحة تطول.
الرابع عشر من آذار، فريق له جذوره في «الفهم اللبناني» الخاص بمرحلة «لبنان أولا». وهو شعار كتائبي بحت، وقواتي مؤصل. ومنه انتقل إلى «مصر أولا» مع السادات، وإلى «العراق أولاً» مع الاحتلال ومن معه ومن خلفه ومن ساومه... هذا ليس جديداً بالمرة.
أما وقد انجزت المقاومة بالتجربة، ما لم تنجزه دول وجيوش وجحافل وآبار نفط، وشعارات، وأمم متحدة، وجامعة عربية، فإنها وضعت الجميع، هنا وهناك العربي، وهنالك الأجنبي، في موضع الدفاع المستميت عن فلسفة الضعف كنتاج لفلسفة الانعزال، (وهو ليس انعزالا لبنانيا أبداً، فالانعزالية العربية تمتد من المحيط الخائب إلى الخليج العائب).
في المواجهة بين آفة الضعف المتمكنة من كثيرين، في الثقافة والسياسة والاجتماع والمصالح، ونعمة المقاومة، المتمكنة من تقرير مصائر الماضي القريب والمستقبل الأقرب، لا مفر من السؤال: كيف يدار الصراع، بين 14 آذار و8 آذار، بين «لبنان أولا» و«المقاومة دائماً».
انتصار المقاومة في فصول المواجهة الأربعة، يشير إلى أن الانتصار الخامس على الأبواب. فماذا عن الفصل السادس والسابع وما يليهما؟
أليس من حقنا أن «نفهم صح»؟ أليس من حقنا أن نعرف الجواب: «متى يكون لبنان كله أولاً، بجيشه وشعبه ومقاومته، مقاومة مصانة، محروسة بنظام سياسي من طبيعتها، وثقافة من صلبها، وتربية من جدواها، وإيمان بعدالتها.
إلى السيد نقول: «فهمناكم صح»... أما «فهمتونا غلط» فتحتاج إلى تصحيح... الآخرون في لبنان يفهمون... لكنهم يقرأون حواشي السياسة، ولا ينتظمون في متن القضايا.