Friday, January 7, 2011

العلمانية خروج من هيمنة الدين


العلمانية خروج من هيمنة الدين








ناصيف نصار
من الطبيعي أن يكثر الجدل حول مفهوم العلمانية وأن تتعدّد تعريفاتها، تبعاً لتعقد عناصرها ولتعدد المواقع والأغراض في صفوف الناظرين إليها. ومن الطبيعي كذلك أن تسقط بعض التعريفات في ضوء النقاش والتجربة وأن تصمد تعريفات أخرى ليتكوّن في المحصلة مفهوم قوي للعلمانية يتسم بالوضوح والدقة والمتانة الداخلية. فما نحاوله إذن في هذا القسم من دراستنا ليس سوى تأليف يأخذ في الاعتبار المقومات التي تجعل من العلمانية مفهوماً قوياً صالحاً للتفسير التاريخي وللتوظيف حاضراً ومستقبلاً.
وخلاصة ما نراه في هذا الصدد وجود مفهومين للعلمانية: مفهوم ضيّق ومفهوم واسع. المفهوم الضيق يتمحور حول العلاقة بين الدين والدولة، والمفهوم الواسع يستوعب المفهوم الضيق على أساس أنه يتمحور حول العلاقة بين الدين والحقيقة. وسيتضح تباعاً لماذا يمكننا ان نسمّي الاول المفهوم السياسي للعلمانية، والثاني المفهوم التنويري للعلمانية.
في السياق التاريخي للحداثة الأوروبية، اتخذ المفهوم الضيق للعلمانية شكل الفصل بين الدولة والدين. وقد قيل الكثير من الأقاويل حول تاريخ هذا الفصل وأسبابه وأطواره ونتائجه، على أن الأهم في هذا كله ثلاثة أمور:
1ـ تنامي الفلسفة السياسية، بعد تمهيدات مكيافلّي، في اتجاه تحرير الدولة من الشرعية الدينية.
2ـ قيام الثورة الفرنسية الكبرى، بعد معاهدة وستفاليا والثورتين الانكليزية والأميركية، بالانتصار لسيادة الشعب والدولة القومية ومبادئ الحرية والمساواة والأخاء وإقامة التشريع في الدولة على أساس «حقوق الإنسان والمواطن».
3ـ استعداد أصلي في الدين المسيحي لتقبل الفصل بين الكنيسة والدولة ارتكازاً على التمييز الانجيلي بين «ما لقيصر» وبين «ما لله».
هذه الأمور الثلاثة هي ما حدّد، على مراحل متعاقبة، المسار الذي استقرّ وتكرس في القرن العشرين فصلاً مقبولاً بما يقارب الإجماع بين الدولة والدين. ولكن ماذا يعني الفصل في هذه الحالة؟ يفترض الفصل بين طرفين أو أكثر وضع اتحاد او تحالف أو شراكة أو تداخل أو سيطرة أو أي وجه آخر من هذا القبيل، وأسباباً تدعو إلى الخروج منه. فهو عملية سلبية من جهة وإيجابية من جهة أخرى. عملية الفصل لا تلغي أي طرف من الأطراف التي تتناولها، بل تكتفي بإعادة كل طرف إلى ما وراء حدوده. فالفصل بين الدين والدولة يعني إذن إلغاء اشتباك معيّن بينهما، لا إلغاء أي منهما، وإرجاع كل منهما إلى ما وراء حدوده، لأسباب تأتي في الأغلب من الدولة. فهو بلا شك عملية معقدة وصعبة، وصعوبته ناجمة من تضارب المصالح والرهانات بطبيعة الحال، ولكنها متعلقة أصلاً بمسألة الحدود بين الدين والدولة. عندما تسعى الدولة إلى الانفصال عن الدين، فهي لا تريد سوى ان تكون سيدة نفسها داخل الحدود التي تلازم طبيعتها، وأن يكون الدين حراً في ميدانه (وهي تعلم أن حدودها من جهة الدين ليست من البديهيات القاطعة). ولذلك يسمّى انفصالها هذا استقلالاً وتحرراً من وصاية الدين عليها، ويسمى كذلك حياداً حيال الإيمان الديني، لأن طبيعتها والحدود التي تلازمها لا تمتّ إلى الإيمان الديني بصلة أصلية.
وفي الواقع، تدور معظم المناقشات حول العلمانية، في البلدان العربية، على مفهومها الضيق. ومن أوضح التعريفات التي أعطيت لها تأكيدا لهذا المفهوم ما أعلنه المحامي عبد الله لحود حيث صرّح بأسلوبه المباشر: «أما نحن فتعريفنا المبسط للعلمانية هو أنها استقلال دستور الدولة وسائر تشريعاتها وأنظمتها عن الاعتبارات الدينية والمذهبية. وليس معنى ذلك نبذ الاعتبارات الدينية والمذهبية نبذاً عدائياً. فالدساتير والقوانين والأنظمة قد تستوحي تلك الاعتبارات، ولكنها تستوحيها كمعطيات تراثية فكرية، أخلاقية، وخاضعة للتطور ولسيادة الشعب، مصدر السلطة ومرتكزها»(1).
هذا تصريح واضح ودقيق. قوام العلمانية استقلال الدولة ودستورها وتشريعاتها وأنظمتها عن الاعتبارات الدينية والمذهبية، من دون عدائية. أما مسألة الديموقراطية، فإنها تحتاج إلى مزيد من البحث، حيث ان استقلال الدولة عن الدين لا يتضمن بالضرورة القول بالديموقراطية، في حين ان الديموقراطية تستلزم استقلال الدولة عن الدين.
ولكن ما يبدو لرجل القانون الديموقراطي استقلالاً للدولة عن الدين من غير عدائية يبدو لرجل الدين المدافع عن مصالح المؤسسة الدينية ابتعاداً عن الدين وإبعاداً له عن المجتمع بأسره. وقد عبّر الشيخ محمد مهدي شمس الدين أحسن تعبير عن موقف المؤسسة الدينية الإسلامية من العلمانية حيث عرّفها، في مطلع تحليله النقدي للعلمانية، محتوى وتاريخاً، بأنها «النهج الحياتي الذي يستبعد أي تأثير أو توجيه ديني على تنظيم المجتمع والعلاقات الإنسانية داخل المجتمع والقيم التي تحتويها هذه العلاقات وترتكز عليها ـ ومن ثم فهي نهج حياتي مادي تكوّن نتيجة لنمو الفلسفات المادية اللادينية»(2). هكذا ينقلب الاستقلال استبعاداً كاملاً، ويتوسع الموضوع من نطاق الدولة إلى المجتمع وقيمه، فتصبح العلمانية في الخلاصة نهجاً حياتياً قائماً على الفلسفة المادية المناقضة للدين. وهذا طرح يخلط بين العلمانية والإلحاد، مع أن المؤلف يميز تمييزاً ثاقباً في ثنايا كتابه بين العلمانية المعتدلة والعلمانية المتطرفة التي هي وحدها ملحدة، كما يخلط بين العلمانية بمعناها السياسي والأساس الميتافيزيقي للحياة وفقاً للفلسفة المادية، مع أن المؤلف يؤكد في شروحه أن جوهر العلمانية إنما يكمن في تحرير شرعية السلطة السياسية وتشريعاتها من المرجعية الدينية.
سنعود إلى بحث هذا الخلط، مكتفين هنا بتبيين ما يحرك الحساسية السلبية عند الشيخ شمس الدين حيال العلمانية. فالقضية في رأيه تتجاوز مسألة السلطة السياسية وتتناول حياة المجتمع بصورة شاملة. إذا كانت العلمانية نهجاً حياتياً يستبعد أي تأثير ديني على المجتمع وعلاقاته وقيمه الإنسانية، فهذا يعني أن العلمانية ذات مضمون اجتماعي أخلاقي، فضلاً عن مضمونها السياسي، وأنه لا بد من الانتقال من المفهوم السياسي للعلمانية إلى مفهوم أوسع يفسح في المجال لتناول القيم والعلاقات الإنسانية في المجتمع من خارج النظرة الدينية. هذا ما يشير إليه القول، اختزالاً واستنكاراً، بأن العلمانية نهج حياتي اجتماعي يستبعد الدين استبعادا كاملا، من موقع الفلسفة المادية. ولكن لما كان مفهوم النهج الحياتي العلماني لا يستلزم بالضرورة الفلسفة المادية، ولا يستلزم أيضا استبعاد الدين من حياة الإنسان على النحو المطلق الذي يوحي به كلام الشيخ، فقد بات من الضروري توضيح ما يضيفه المفهوم الواسع للعلمانية إلى مفهومها الضيق.
قلنا قبلاً إن تنامي الفلسفة السياسية في اتجاه تحرير الدولة من الشرعية الدينية كان من أهم عوامل التطور نحو العلمانية في الحداثة الأوروبية. ونتابع فنقول إن هذا التنامي كان جزءاً من حركة واسعة حملتها البورجوازية الأوروبية وسارت بها بعيدا في بناء الحضارة، ألا وهي الحركة العقلانية التنويرية. فالفلسفة السياسية الحديثة التي تبلورت على الخصوص في أعمال هوبز وسبينوزا ولوك ومونتسكيو وروسو أكدت بصورة قاطعة قدرة العقل على النظر في طبيعة الحياة السياسية والدول وأنظمة الحكم وأشكالها من دون رجوع إلى الرؤية الدينية للسلطة والتشريع. وترافقت أعمالها مع أعمال باهرة للعقل العلمي والعقل الفلسفي في ميادين النظر في الطبيعة وما بعد الطبيعة والرياضيات، تأكدت بها قدرة العقل البشري على التحرك خارجاً عن اللاهوت. ثم كانت انطلاقة الفلسفة والعلوم في ميادين النظر في الإنسان، أي في الظاهرة الإنسانية وجميع ظواهرها، بما فيها الظاهرة الدينية. فبات واضحاً أن الجانب السياسي في العلمانية لا يستقيم أمره ولا يشتد عوده من دون ذلك الجانب الثقافي المرتكز على إرادة مصممة على اختراق كل معرفة قائمة، وهو ما نسميه، اختصاراً، الجانب التنويري. فما هي العبرة من هذا التطور؟ العبرة من هذا التطور هي استقلالية العقل البشري في تعاطيه مع أسئلة الحقيقة والمصير عن المرجعية الدينية. وهي عبرة قابلة للتعميم والتطبيق في جميع الثقافات. ومعنى الاستقلالية هنا كمعناها في مسألة العلاقة بين الدولة والدين، إذ إنها ليست أكثر من الاعتراف للعقل بحقه الطبيعي في إنتاج المعارف النظرية والعملية المتعلقة بالكون والإنسان خارجاً عن اعتبارات الإيمان الديني والوحي. على أن مسألة الحدود هنا أدقّ وأعقد مما هي بالنسبة إلى الدولة والدين، وأسباب التنازع أكثر، لأنه ليس من المعلوم مسبقاً ما سيقرره العقل عن الكون والإنسان وأي حد يستطيع أن يبلغه. ثمة بحث عقلي مفتوح حول قدرة العقل وحدوده وإنجازاته في ميادين الكون والإنسان، وثمة بحث آخر، مفتوح هو أيضاً، حول انعكاس نشاط العقل المستقلّ على الرؤية الدينية إلى الكون والإنسان. ومن هنا فإن الجوهري في العلمانية ليست التوافق بين العقل والدين، ولا التعارض بينهما، فهذان أمران متروكان لمنطق البحث ونتائجه، بل حرية العقل بالنسبة إلى الإيمان الديني، وحرية الإيمان الديني بالنسبة إلى العقل.
وبناء عليه، إذا كان المفهوم السياسي للعلمانية يقتصر على تحرر الدولة وأنظمتها ومؤسساتها من اعتبارات الدين ومذاهبه، وإذا كان المفهوم التنويري للعلمانية يقتصر على تحرّر العقل في مقاربته للحقيقة من الرؤية الدينية للكون والإنسان، فإنه من المنطقي أن تكون العلمانية في جملتها خروج الإنسان من هيمنة الدين على حياته إجمالاً من خلال الهيمنة على حياته الفكرية/ العقلية والسياسية، وليست أكثر من ذلك. التحرر السياسي من الدين ليس تحرر الإنسان بكليته من توجيهات الدين، وتحرر العقل من التقيد جبراً بالنظرة الدينية إلى الكون والإنسان ليس تحرر الإنسان بكليته من الإيمان الديني.
ولذلك نقول إن العلمانية خروج من هيمنة الدين، وليست بالضرورة خروجاً كاملاً من الدين(3). القضية هي قضية معارضة لهيمنة معينة، هي هيمنة الدين على حياة الإنسان الفكرية/ العقلية والسياسية، وليست قضية نفي للإيمان الديني من حياة الإنسان بكليتها. وما ذلك إلا لأن الهيمنة استتباع وإخضاع، والخضوع تحت ضغط الاستتباع هو للهيمنة كما الطاعة الواجبة للسلطة والرضوخ والإذعان للسيطرة. وبهذا المعنى فهي أمر غير مشروع. الهيمنة اسم آخر للتسلط، يتميز عن أسمائه الأخرى بأنه يرتكز على تفوق حقيقي أو مزعوم، مع نزعة إلى التوسع والتفرد على تفنن في اختيار الوسائل المناسبة. وإنه لمن الواضح ان هيمنة الدين متأتية من شعور بالتفوق في تصور علاقة الإنسان بالمطلق وامتلاك الحقيقة المطلقة، وفي تحديد مصير الإنسان النهائي. ولكن هل يؤسس هذا الشعور لحق فعلي في استتباع العقل وقمعه وحرمانه من حرية التحرك في استكشاف حقائق الكون والإنسان، بما فيها علاقة الإنسان بالمطلق والتصورات المختلفة لهذه العلاقة؟ العلمانية تجيب عن هذا السؤال فقط، من دون دخول وحسم في المسألة نفسها، مسألة علاقة الإنسان بالمطلق، فتكتفي بنقد الهيمنة، سواء أكانت من جهة الدين أم من جهة العقل، وهذا ما يميزها تمييزاً قاطعاً عن الإلحاد.
الحرص على استقلالية العقل وحريته نابع من تنامي الوعي الإنساني واحترام الإنسان لذاته. فهو إذن من واجبات الإنسان تجاه ذاته. وأهم ما في هذا الحرص أنه لا يقرر بصورة مسبقة ما يجوز للعقل وما لا يجوز له، بل يترك للعقل نفسه أن يقرر ما يبحثه وما يقوله حول الحقائق النظرية والعملية المتعلقة بالكون والإنسان، في حدود قدراته الخاصة، ولا سيما في ما يتعلق بالمطلق. وعلاقة الإنسان به. فالعلمانية ليست فلسفة ميتافيزيقية، بل فلسفة الدفاع عن حق العقل في ممارسة البحث الميتافيزيقي وفي نقد هذه الممارسة. العالم بأسره موضوع له كما أنه للدين، على أن الأهم في الموقف العلماني هو أن مقاربة العقل للعالم تجري باستقلال عما يقوله الدين عنه من حيث المبدأ. ولذلك، لا يصح تعريف العلمانية بأنها «نظرة شاملة للعالم، أي للإنسانية جمعاء والكون كله، تؤكد استقلالية العالم، بكل مقوماته وأبعاده وقيمه تجاه الدين ومقوماته وأبعاده وقيمه»(4). النظرة الشاملة إلى العالم نتيجة من نتائج النظر في ميادين العالم وظواهرها ومبادئها بطريق الاستكشاف العقلي أو الحدس الإيماني المطلق، والعلمانية دون ذلك. فالاستقلالية التي تؤكدها ليست للعالم عن الدين، بل للعقل عن الدين وللدولة عن الدين. وذلك لأنه، إذا كان المقصود بالدين الله وتعلق العالم به، فالقول باستقلالية العالم قول ميتافزيقي ليس مقطوعاً في صحته، وهو يتحمل تأويلات عدة، المادية واحد منها. وإذا كان المقصود بالدين النظرة الإيمانية إلى العالم، فالقول باستقلالية العالم قول يناقض المثالية، ويمكن حمله على الدين كما يمكن حمله على أنواع من الواقعية. وإذا كان المقصود بالعالم عالم الإنسان فقط، فالقول باستقلاليته عن الدين يتضمن نفياً أو إقصاء لاختبار الإيمان الديني او لما هو ديني في الإنسان. وهذا كله سبب لالتباسات خطيرة، إن لم تكن مهلكة. والسبيل لتجنبها إنما هو القول بأن العالم هو العالم، كان قبل الإنسان، وسيبقى بعده، ونحن منه وفيه، نتدبر أمورنا فيه بقدراتنا كلها، وفقا لماهياتها ووظائفها ومصائرها، ومن العدل ان يكون هذا التدبر من دون هيمنة لواحدة منها على سواها(5).
من الطبيعي، والحالة هذه ان تفتح العلمانية فضاء اجتماعياً جديداً وأن يكون التطور نحو العلمانية نسيجاً من تحولات لا تخلو من معارك قاسية أحياناً ومن تراجعات وتعثرات وانحرافات لا تلبث أن يتبدد مفعولها في ظل القانون العام لتنامي الوعي. أما التطور في العلمانية، فإنه مفتوح على احتمالات عدة، بحسب قدرة الدين على إثبات نفسه في وجود البشر وبحثهم عن المعنى.
وعليه، ليس بمستغرب أن تصطدم العلمانية بمقاومة شديدة من جهة التيارات والمؤسسات الدينية التقليدية المستمرة من عصر هيمنة الدين على الحياة الثقافية والسياسية. هكذا كان الأمر بالنسبة إلى الكنيسة المسيحية، وهكذا هو في هذه الأيام بالنسبة إلى التيارات والمؤسسات اليهودية الأصولية وبالنسبة إلى التيارات والمؤسسات الإسلامية السلفية. وما القول برفض الإسلام المطلق للعلمانية سوى قول تبسيطي، له علاقة بالسياسة وتعبئة الجماهير أكثر مما له علاقة بالحقيقة وإمكانيات المستقبل. ففي تاريخ الثقافة العربية الوسيطة، يوم كان الإسلام سيد النظرة إلى العالم بلا منازع، نشأ اتجاه عقلاني إنساني شاركت فيه عقول نابغة، لم تخش من التفكير في الدين بجرأة لافتة من موقع لاهوتي كالمعتزلة، او من موقع فلسفي كالفارابي وابن طفيل، أو من موقع العلم التاريخي كابن خلدون. ولا نقصد ان نقول بهذه الملاحظة إن العلمانية لها جذور في التراث العربي للعصور الوسطى، بل نقصد القول بأن التفكير في الدولة من موقع علم العمران البشري بهدف الكشف عن البنية الاجتماعية التي تنتجها، والتفكير في الإسلام من داخل الإسلام بهدف فهم عقائده فهماً عقلانياً، والتفكير في الدين من خارج الدين بهدف تحديد منزلة الدين كرؤية للكون والإنسان بالنسبة إلى الفلسفة، أمور عرفتها الثقافة العربية قبل عصور الانحطاط وقبل أن تجد نفسها أمام التحديات الهائلة المفروضة عليها من جهة الحداثة الأوروبية. ولذلك لا يمكن القول إن قضية العلمانية كانت مفاجئة لها بالكامل بجدّتها وغرابتها، كما لا يمكن القول بانسداد المسالك إلى تعميق التطور البطيء الحاصل نحو العلمانية انسداداً نهائياً بسبب جهالة الجماهير وتحكم الاستبداد ومكيافلية الغرب ونفوذ التيارات السلفية على أنواعها. هذه عقبات ضخمة بلا ريب ومتداخلة. ولكنها ليست قدراً محتوماً ومختوماً. فمن وجهة الحقيقة، المسألة هي، كما بيّن عادل ضاهر في اكثر من دراسة، إما تأويل خاطئ لطبيعة الإسلام كدين وعلاقته بالسياسة، وإما تسليم بأن الإسلام متناقض داخلياً(6). ومن جهة إمكانيات المستقبل، المسألة هي مسألة عملية صراعية، متعددة الأطراف والوجوه، على الأمد الطويل، إما أن تنتصر فيها إرادة المشاركة في الحضارة العالمية من داخلها، وإما أن تنتصر إرادة البقاء على هامش التاريخ.

[من كتاب صدر حديثاً: الإرشادات والمسالك ـ دار الطليعة، 2011.
هوامش
(1) عبد الله لحود: في العلمانية والديموقراطية، دار النضال، بيروت، 1992، ص 45. انظر أيضا ص23.
(2) الشيخ محمد مهدي شمس الدين: العلمانية، دار التوجيه الإسلامي، بيروت، 1980، ص7 (بعد اختفاء الإمام موسى الصدر بكيفية لا تزال غامضة، أصبح الشيخ شمس الدين نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان، وتولى هذا المنصب حتى وفاته).
(3) نتفق بقولنا هذا اتفاقا مبدئيا فقط مع مارسيل غوشيه، مؤرخ تحولات الدين والعلمانية في الحضارة الغربية الحديثة، إذ إننا نحرص على التشديد على ان الخروج هو خروج من «هيمنة» الدين فقط، وليس «خروجاً من الدين» كما يكرر غوشيه في مختلف دراساته، موحياً بعبارته أكثر مما يقتضيه او مما يسمح به تركيزه على المجتمع السياسي، ومتجاهلاًَ إلى حد ما الفوارق في المسألة الدينية بين تجارب المجتمعات الأوروبية وتجارب مجتمعات القارة الأميركية.
(4) هذا هو تحديد العلمانية في وثيقة تأسيس المؤتمر العام الدائم للتيار العلماني في لبنان. انظر من الفكر الحر إلى العلمنة، ألبير بايه ول. دونوروا، ترجمة مع إضافات بقلم عاطف علبي، دار الطليعة، بيروت، 1986، ص122.
(5) يجد القارئ في كتاب الباحث المتخصص في تاريخ اليهود والصهيونية، عبد الوهاب المسيري العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (دار الشروق، القاهرة، ط. 3، 2008)، ـ وهو في الواقع كتاب عن الحداثة الغربية من زاوية العلمانية ـ تمييزاً بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ومفهوماً للعلمانية الشاملة، يجعل منها نظرة عقلانية شاملة إلى العالم (الإنسان والطبيعة) مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفلسفة ميتافيزيقية معينة هي فلسفة الواحدية المادية التي ترجع الإنسان كليا إلى الطبيعة، والطبيعة إلى المادة، وتنتهي إلى تسييد مبدأ القوة وقوانينها بين الكائنات البشرية. وهكذا، إذا كانت العلمانية الجزئية تعني فصل الدولة عن الدين، فإن العلمانية الشاملة تعني «فصل القيم الإنسانية والاخلاقية والدينية عن الحياة في جانبيها العام والخاص» (المجلد الأول، ص6 أنظر أيضا ص16). وهذا تعريف أوقعته إرادة النمذجة بهدف التفسير بالبنية الكامنة في مزالق الاختزال والمبالغة. ونكتفي ههنا بطرح السؤال الآتي: هل صحيح حقاً، في المبدأ أو في الواقع، ان العلمانية المتجاوزة لفصل الدولة عن الدين هي تجريد الحياة البشرية من القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية، كما يعتقد المسيري؟ بعبارة أخرى، إذا كان من الضروري لفهم حقيقة العلمانية عدم الاكتفاء بفصل الدين عن الدولة، فهل من الضروري ربطها، في المبدأ أو في الواقع، بفلسفة الواحدية المادية؟ ففي الحضارة الغربية الآخذة بالعلمانية تدريجياً منذ عصر النهضة لا تسود الفلسفة الواحدية المادية كرؤية وحيدة إلى العالم على الرغم من النفوذ الكاسح لثالوث الرأسمالية والعلوم والتكنولوجيا. والنزعة الإنسانية لا تنفك عن التجدد والتمسك بالمبادئ الأخلاقية والحقوقية المؤسسة على كرامة الإنسان، على الرغم من الممارسة المتعددة الوجوه لسياسة القوة والسيطرة. ومن الناحية النظرية العامة، ينبغي التمييز بين العقل كمصدر للمعرفة وبين توظيف العقل واستخدامه والانجازات العلمية والفلسفية والتكنولوجية المتولدة من فاعليته. وفي الحقيقة، ما دامت العقلانية بعيدة عن تحويل استقلالية العقل إلى امبريالية للعقل أو إلى عبادة للعقل، فإن العلمانية ستظل فضاء مفتوحاً ضامناً لحرية العقل والتفكير به وفيه ونقده في ذاته وفي إنجازاته، وضامناً ايضاً لحرية الإيمان الديني والتفكير به وفيه ونقده في ذاته وفي انجازاته، وذلك لأن العلمانية ليست ميتافيزيقا، ولا تستلزم بالضرورة ميتافيزيقا واحدة محددة بعينها.
(6) عادل ضاهر: الأسس الفلسفية للعلمانية، دار الساقي، بيروت، 1993، ص7. انظر أيضا كتابه: أولية العقل، نقد أطروحات الإسلام السياسي، دار أمواج، بيروت،
2001.