Saturday, January 29, 2011

التقسيم هو مشروع اميركي وسيبدأ من العراق


التقسيم هو مشروع اميركي وسيبدأ من العراق


انتهت الاستشارات النيابية. وبدأ الرئيس المكلّف مسيرة تأليف الحكومة العتيدة. انتهت أو ستنتهي "فشة خلق" المعارضة (الموالاة سابقاً). هدأت حدّة خطاب الموالاة (المعارضة سابقاً). بدأ البعض يقول بأن ما قبل التكليف شيء، وما بعده شيء آخر. صحيح. لقد زاد الشرخ الوطني. وكَبُرت الهوّة بين الموالاة والمعارضة. والاخطر من ذلك كله ان الشحن الطائفي يزداد يوماً بعد يوم. الموالاة السابقة تشعر بخيبة الخسارة. والمعارضة السابقة تعيش نشوة النصر. فهل صحيح ان هناك رابحاً وخاسراً؟ الاكيد أن لبنان، بصيغته "التعايشية"، هو الخاسر الاكبر. ولكن من المنتصر الفعليّ؟! إنها "الفوضى" التي بشّرتنا بها الادارة الاميركية السابقة. وها هي في طريق عودتها الى لبنان بعد أن حطت رحالها في العراق وفلسطين... والسؤال المهم: لماذا يعبث الاميركيون بأمن المنطقة وينشرون الفوضى؟!

في نهاية الثمانينات ربحت الولايات المتحدة الاميركية الحرب الباردة التي دامت نصف قرن. وككل امبراطورية، كان من الطبيعي ان تفكّر في تعديل خرائط بعض الدول بما يتناسب مع مصالحها. ولإجراء هذا التعديل يجب احداث الفوضى في الانظمة القائمة. وهذا ما يحدث في منطقة الشرق الاوسط ذي الاهمية الاستراتيجية بالنسبة للاميركيين

لا شك في أن الاميركيين قرأوا في كتب تاريخ الامبراطوريات السابق. فبعد مرور حوالى القرن على اتفاق "سايكس – بيكو" ايقنوا بأن خرائط الدول التي رسمها الانكليز والفرنسيون (المنتصرون في الحرب العالمية الاولى) في بداية القرن المنصرم لم تحافظ على مصالحهما في الشرق الاوسط. فالدول الكبيرة التي رسموا حدودها والانظمة الموالية التي اقاموها لم تصمد في وجه التيارات السياسية الشعبية المدفوعة بفكرة القومية، هذه الفكرة التي وصلت الى العرب في القرن التاسع عشر آتية من اوروبا. فقامت انظمة جديدة قويّة خلعت عنها سريعاً سلطة الانتداب واستأصلت مصالح الغرب الاجنبي الاقتصادية عن اراضيها، خاصة في النفط. والمثال البارز على ذلك هو في مصر مع وصول جمال عبد الناصر الى السلطة وتأميمه قناة السويس في العام 1956 وبعثه روحاً قومية عربية وصل تأثيرها الى العديد من الدول العربية

أمام هذا الواقع وخلال الحرب الباردة حاولت الدول الغربية تدارك الامر والحفاظ على الدول العربية الى جانبها من خلال حلف بغداد ومبادئ ايزنهاور. لكن الحلف لم يدم طويلاً. ولم تستطع "المبادئ" حماية الانظمة المؤيّدة لها من الثورات، كما حصل في لبنان في العام 1958. صحيح ان الشيوعيين لم يستطيعوا الوصول الى الحكم في اي من الدول العربية، ولكن العديد من انظمة المنطقة بنَت علاقات جيدة مع الاتحاد السوفياتي (مصر، سوريا، العراق). وبدا ان "انزالاً" سوفياتياً (سياسياً واقتصاديا وأحياناً عسكرياً) قد حصل خلف خط الدفاع التركي – الايراني، الذي اقامه الاميركيون في وجه تمدّد الشيوعية الى الشرق الاوسط. كما توصّلت الانظمة المدعومة من الاتحاد السوفياتي الى تهديد الكيان الاسرائيلي في حرب 1973. عندها قرّر الاميركيون فصل مصر عن العرب ورعاية مفاوضات سلام سريعة (نسبياً) بينها واسرائيل. وحاولوا الهاء النظام السوري في لبنان حيث كانت قد بدأت "الفوضى الاميركية الاولى"

لبنان هو الحلقة الاضعف في الشرق الاوسط. فبدأ الاميركيون، فور خروجهم من مستنقع فيتنام في منتصف السبعينات، زرع الفوضى فيه من خلال الحرب الاهلية كمدخل لإحكام قبضتهم على المنطقة. حاول المحافظون الجدد، خلال رئاسة رونالد ريغان، اعادة تعويم نظام الحكم الماروني، القريب تاريخياً من الغرب، وتأمين جبهة اسرائيل الشمالية. اقترب اسطولهم من الشواطئ اللبنانية ودعموا وصول بشير الجميل الى الرئاسة في بداية الثمانينات. لكن الاخير رفض السير في المخطط الاميركي – الاسرائيلي وتوقيع سلام منفرد يعزل لبنان عن العالم العربي، لا بل يضعه في مواجهة هذا الاخير

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العام 1989 اصبحت الولايات المتحدة الاميركية القوة العظمى الوحيدة في العالم. فكان من الطبيعي ان تقوم بما يسمى باللغة العسكرية "استغلال النصر"، وذلك بإحكام قبضتها على المناطق الاستراتيجية في العالم وفي مقدمها منطقة الشرق الاوسط (في الشرق الاوسط اكبر مخزون للنفط في العالم، وهو يطل على البحر المتوسط، ونقطة وسط بين آسيا وافريقيا واوروبا، وصلة وصل بين منطقة جنوب شرق آسيا والبحر المتوسط عبر قناة السويس،...). كما خطّطت لتغيير خرائط بعض الدول كي لا تتكرّر تجربة الانكليز والفرنسيين

البداية كانت في العراق، حيث وقع صدام حسين في فخ ابريل غلاسبي (سفيرة الولايات المتحدة في العراق آنذاك) واجتاح الكويت. فكانت الذريعة لنزول الجيش الاميركي في قلب العالم العربي، ضمن تحالف غربي – عربي! وبدأت مسيرة الفوضى في العراق. اعتقد البعض ان سقوط بغداد ستكون نهايتها وبداية ديموقراطية نموذجية في العالم العربي. والواقع ان الفوضى ازدادت وانتجت حرباً يشنّها ابناء العراق ضد بعضهم البعض مشحونين بروح مذهبية عدائية مدمّرة وبدعم من الدول الاقليمية المتنافسة على النفوذ في المنطقة. فلم يعد من حاجة للقوات الاميركية لزرع الفوضى. وها هي تنسحب تاركة وراءها عراقاً موحّداً دستورياً ومقسّما عملياً الى ثلاث مناطق: جنوب شيعي، وشمال كردي وبينهما وسَط سنّي. فإذا بالذاكرة تعود بي الى منتصف السبعينات عندما كنت اسمع والدي يقول بأن التقسيم هو مشروع اميركي وسيبدأ من العراق. والدي ليس بعالِم في السياسة ولا بسياسي. إنه عامل بسيط. ولكنه كان يسمع في نشرات الاخبار وبعض التحاليل عن "مشروع كيسينجر" القاضي بتقسيم دول الشرق الاوسط الى دول صغيرة طائفية او اثنية متناحرة في ما بينها، تبرّر قيام دولة اسرائيل "اليهودية" وعاجزة عن تهديد المصالح الاميركية في النفط وأمن اسرائيل

الشعب الفلسطيني هو ايضاً غارق في الفوضى الداخلية الجديدة اضافة الى مشاكله المعقّدة والمزمنة منذ "النكبة". هذه الفوضى لم تكلّف الاميركيين عناء كبيراً لتقسيمها. كان يكفي دعم حركة "حماس" عند تأسيسها في الثمانينات لاضعاف قوة ياسر عرفات. ومن ثم التغاضي عن دعم ايران لها ابتداءً من التسعينات حتى تتفوّق على حركة "فتح" وينقسم الشارع الفلسطيني في منطقتين غير متصلتين جغرافيا: الضفة الغربية (فتح) وقطاع غزة (حماس). في المحصّلة، سلطة فلسطينية غير قادرة على السير بالمفاوضات. و"حركة" غير قادرة على الحكم بالرغم من حصولها على الغالبية النيابية في انتخابات 2006. انها الفوضى الفلسطينية الداخلية المثالية لاسرائيل لتستمر في سياسة الاستيطان وتهويد القدس

لبنان، وقبل ان يلملم آثار "الفوضى الاميركية الاولى" راح يغرق في فوضى جديدة منذ صدور القرار 1559. مذذاك انقسم اللبنانيون بين مرحّب بالقرار ومندّد به، وبين ثائر مطالب بخروج القوات السورية من لبنان، على أثر اغتيال الوزير الراحل ايلي حبيقة و رفيق الحريري، ومتوجّس من آثار هذا الانسحاب. وبدل ان يتّحد اللبنانيون في مواجهة مشروع الفوضى الاميركية، راحوا يساهمون كلّهم، ونشدّد على "كلّهم"، في تحقيقه. وانقسموا فريقين

واحد مدعوم أميركياً والآخر يقول انه ضد الاميركيين. صحيح ان الانقسام ظاهره سياسي، ولكن باطنه طائفي لا بل مذهبي. وفي ظل ما نشاهده من شحن للمشاعر الدينية، وتعليق للحوار الوطني، وانفراط لحكومة الوحدة الوطنية، وتلويح بـ"استعمال السلاح لحماية السلاح"، وردٍّ على تبديل ميزان القوى الداخلي بتظاهرات "عفوية" عنيفة، ... ألم
ننزلق الى الفوضى التي يريدها الاميركيون في دول المنطقة؟!

ألن تعود الفوضى اللبنانية قنبلة موقوتة جاهزة للتفجير بحيث تطول شظاياها العديد من دول المنطقة؟! أليس هو الوضع المثالي لاسرائيل لتضع يدها على النفط والغاز اللذين يتم الكلام عنهما كثيراً مقابل الشواطئ الاسرائيلية واللبنانية؟! وبالتالي ألستم كلّكم أيها اللبنانيون خاسرين والمشروع الاميركي هو الوحيد المنتصر؟! ألستم ايها اللبنانيون كلّكم "اميركيين"؟

.....

نحن محكومون بالتنازل. هذه لعنتنا. لعلّها ضريبة ما ننعم به من تنوّع. ضريبةُ ما نُحسَد عليه. ضريبة ضجيجنا. لنعتبره نوعاً من الفَصْد إنقاذاً للشخص من الانفجار.
والانفجار هو ما نهرع إليه إذا لم نستيقظ جميعنا من الحقد والغرور.

ليعذرني غير المسيحيّين:


أكتب هنا كمسيحي. لو هَجَرتني جميع القيم المسيحيّة أو هجرتُها لتمسّكتُ بالغفران. يوازن بولس بين الإيمان والرجاء والمحبّة فيفضّل المحبّة. المسيح مضى بالمحبّة إلى أقصاها: أحَبَّ أعداءه وغَفَر لقاتليه. أجمل ما في المسيحيّة هو هذا الانكسار. انكسارٌ ليس نقيض القوّة كما كان يظنّ نيتشه بل هو هو القوّة. وأعتقد أنه أجمل ما يمكن أن يدين به لبنان للمسيحيّة.
أنا واحدٌ من المسالمين الذين يقدّسون حياة الكائنات من الفراشة إلى الحوت. واحدٌ من الذين لا يرون في كلمة شارع إلّا رمزاً لنهر البشر المتدفّق تحت الشمس والقمر. لا سلاح ولا مارد مذهبي ينطلق من القمقم. أنا واحدٌ من مئات ألوف الضعفاء الذين يعتبرون ضعفهم نوراً من الله على جباههم ويرفضون العبور إلى شيء على الجماجم، لا إلى السلطة ولا إلى التحرير. أنا واحدٌ من المساكين الحالمين بشعب واحد، تجمعه قضاياه الإنسانيّة وتحفزه تطلّعات نُخبه وأحراره وتدعوه ثورات على الذات وعلى أمراض الجماعة لا ثورات دينيّة يتذابح فيها النعاج. أنا واحدٌ من الذين أتعبهم قَدَرُ الوجود في هذه النقطة من العالم ولا أستطيع الانسلاخ عنها. هذه تعاستي وهذه قوّتي.
... وليتوقّف لساننا عن تداول عبارات كالسين ـــــ سين والألف ـــــ ألف. لا حاجةَ لتكريس تبعيّة سياسيّينا بهذه المصطلحات شبه الدستوريّة. إنه ذروة الاستسلام الهازئ بالكرامة... لم يقدّم اللبنانيّون استقالتهم للسعوديّة وسوريا ولا لأميركا وإيران. قدّمها زعماء ومسؤولون ونوّاب ووزراء. الشعب اللبناني لا يمثّله أحد....

الشعب اللبناني المخدَّر نائم في الغابة